إعدام يعقوب بن السكيت
عجيبة تلك الأقدار
.. ما أكثر عجائب التاريخ.. إنها قصص درامية تلك التي شهدتها دنيا الناس، تجعل المتأمل لها ترتسم في ذهنه عشرات من علامات الاستفهام الحائرة والمحيرة التي تبحث عن إجابات واضحة المعالم والقسمات، ولكن في كثير من الأحيان لا نجد الإجابات ولكن نجد أن علامات الاستفهام في حاجة إلي علامات استفهام جديدة!! ولا أحد يستفيد من حكمة التاريخ، لأن الأحداث كثيرا ما تكرر نفسها!!
لقد وقفت كثيرا أمام قصة واقعية من قصص التاريخ بطلها أحد الأدباء المرموقين، واللغويين الذين تحدثت عنهم المعاجم الأدبية، وهو يعقوب بن السكيت، وقالت عنه أنه من الأدباء المرموقين، واللغويين الذين كان لهم شأ عظيم في الحياة الأدبية العربية في العصر العباسي.
وما يعنينا هنا ليس الوقوف عنده كأديب ولغوي لأن الحديث عنه من هذه الزاوية في حاجة إلي متخصصين في اللغة ونحوها وصرفها، ولكن الذي يعنينا هو موقفه كمثقف أمام ما كان يجري في عصره من اعتداء علي الحق، والجنوح إلي النفاق رغبة في إرضاء الخلفاء والحكام ولو كان ذلك علي حساب الحقيقة.
فالناس في كل عصر.. وفي كل الأجيال.. نري بعضهم ينحاز إلي الحق حتي لو فقد في سبيل قوله الحق حياته نفسها.
كما نري أيضا من يداهن وينافق السلطة أو من في يده السلطة علي حساب القيم حتي يصل إلي ما يريد الوصول إليه من مكانة مخالفا بذلك ضميره ودينه، لأن مصلحته فوق أي اعتبار. هذان النموذجان من البشر نراهما في كل العصور!
ومن يقرأ التاريخ.. تاريخ الشعوب والحكام في مختلف الدول يري هذين النموذجين، بلا تغيير في الشكل ولا في المضمون.
* * *
وبطل قصتنا هذا قضي نحبه في عصر الخليفة العباسي المتوكل علي الله.
والمتوكل علي الله نري بعض المؤرخين يرفعونه إلي مكانة رفيعة، لأنه قضي علي الفتنة التي حدثت في عهد الخليفة العباسي المأمون، الذي كان مولعا بالجدل والفلسفة، وظهرت في عهده بدعة هل القرآن مخلوق أم كلام الله، وكان هذا الخليفة يري أن القرآن مخلوق، وكان يعذب كل من يقول بغير هذا الاعتقاد، وكان ممن عجذبوا بسبب هذه البدعة الإمام أحمد بن حنبل نفسه، والذي كان يقول بأن القرآن كلام الله.
ولكن المتوكل بالله عندما جاء إلي الحكم أبطل هذه البدعة، والحديث فيها وهذا مما يحسب له، ويقول الرواة أن ابن دؤاد صاحب هذه البدعة قد أصيب بالفالج الذي أعجزه عن الحركة.
وهناك من المؤرخين من عاب عليه أنه كان مسرفا في بناء القصور لنفسه، وأنه أرسل من هدم قبر الإمام الحسين والاستهزاء بالإمام علي وزوجته فاطمة الزهراء.
* * *
ولم يعجب أديبنا اللغوي ما يفعله هذا الخليفة من ازدراء للإمام علي وفاطمة الزهراء وهي من هي.. فهي بنت أعظم رسل السماء، وهي التي كانت قريبة من قلب والدها العظيم، وزوجها من هو في مواقفه أيام الرسول وجهاده العظيم وعلمه وتقواه، كما أن الحسين له في القلوب كل التقدير والحب لاستشهاده مظلوما علي يد بني أمية.
لذا استشاط يعقوب غضبا لمشاهدته رياء الناس الذين يضحكون عندما يسمعون هذا الخليفة يلوك بلسانه الإمام كرٌم الله وجهه وزوجته وولده الحسين، استنكر ذلك أمام الناس، وكان من الطبيعي أن يصل رأيه هذا إلي الخليفة، فما أكثر المنافقين الذين يريدون الوصول حتي عن طريق هذه الأساليب الدنيئة.
* * *
ان الخليفة يعتقد أنه بمجرد أن يرسل إلي هذا الأديب العالم إلي مجلسه، ويطلب منه الحديث عن الحسن والحسين، أنه سوف ينهار أمام مجلس الخليفة، وأنه سوف ينكر التهمة التي توجه إليه من أنه يرفض أن يجسب آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه يبدو جبانا أمام مجلس الخليفة!
ودخل الرجل إلي مجلس الخليفة في وقار العلماء، وكان الخليفة يجلس مع ولديه وبعض المقربين إليه.
لقد نظر الخليفة إليه بازدراء وسأله بازدراء:
(*****) يا يعقوب أتري الأميرين هذين؟
قال الرجل:
(*****) أراهما
قال له الخليفة مستهترا وشامتا
(*****) أيهما أحسن؟ ولداي هذان أم الحسين والحسين أيها الشيخ المجنون!!؟
قال الرجل الشيخ بكل الثقة:
(*****) إن قنبرا خادم الحسن والحسين أحسن منهما ومنك يا أمير المؤمنين.
لم يكن الخليفة وهو في أبهة الملك وعظمة السلطة يتوقع أن يكون جواب الشيخ الأديب بهذه القوة وبتلك الصراحة.. كان يتوقع منه أن ينفي أنه قال ما قال عن سبطي رسول الله، وأمهما الطاهرة، ولكنه فوجئ بهذا القول الجرئ، فما كان منه أن اشتاط غيظا وأمر غلمانه وخدمه أن يطرحوه أرضا ويدوسوه بالنعال!
وقام الخدم والغلمان بتنفيذ الأمر، ولم يتركوا الرجل إلا وهو علي شفا الموت، وخرج من حضرة الخليفة متوجها إلي منزله، ولم يلبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة.
* * *
وتمضي الأيام وتسرع خطاها في فلك الزمان.. وإذا بالخليفة يحاول أن يغير خلافة العهد للمعتز، بدلا من المنتصر، مما جعل الأخير يحنق علي والده، ويدبر مكيدة لقتله حتي لا يفسح الطريق للخلافة لأخيه بدلا منه، فاتفق مع الجنود الأتراك علي قتل أبيه، فدخل خمسة منهم عندما ساد الظلام الليل، وكان مع وزيره الفتح بن خاقان، فقتلوهما معا وكان ذلك في الخامس من شوال سنة 247ه.
* * *
وقد حدٌث الشاعر البحتري عن هذه الحادثة فقال:
اجتمعنا ذات يوم في مجلس المتوكل فتذاكرنا السيوف.
فقال بعض من حضر:
دفع لرجل من أهل البصرة سيف من الهند ليس له نظير، فأمر المتوكل بكتابة كتاب إلي عامل البصرة بشرائه مهما بلغ.. فنفد الكتاب.
قال البحتري:
وبينما نحن عند المتوكل في ليلة أخري إذ دخل عليه عامله عبيدالله، والسيف معه، فسرٌ المتوكل به وانتضاه واستحسنه وجعله تحت ثني فراشه، فلما كانت الفداة طلب من الفتح بن خاقان علاما يثق بنجدته وشجاعته، فجاءه (بباغر) التركي، فدفع إليه السبف وزار له الرزق، ولم تمض الأيام حتي قتل المتوكل بذلك السيف من يد (باغر) المذكور قياما بغرض المنتصر!
* * *
ويقول الدكتور محمد رجب البيومي، في دراسته عن 'يعقوب بن السكيت يستشهد' في نهاية هذه الدراسة:
'صد م المتوكل بما لميكن يتوقع، وكسا الخزي الأحمر وجوه جلسائه، فقام كالثور الهائج يرغي ويزيد، ثم أمر غلمانه الأتراك فطرحوا الشيخ أرضا ليدوسون بالنعال، ثم ليتركوه في سكرات النزع، فيحمل إلي داره فاقد الإدراك، ويقلب المحتضر الشهيد عينيه في أهليه مودعا حتي إذا قضي وطرا مما يريد، جاء اليقين قلت رضوان الله.
ويشار القدر الساخر أن يري المتوكل إجابة صريحة دون كتمان حين يتآمر أحد هذين الأميرين المفضلين علي حياته.. فيلقي مصرعه ذليلا ضارعا بتدبير ولده تحت سوف الخدم من الأتراك.. هؤلاء الذين فزعوا من إعدام ابن السكيت، ليتهيئوا بعد قليل لسحق الطاغية العنيد.. فتأكله سيوف الأوشاب في ليلة رهيبة دامية وتقذف جثته في العراء.
ويراها الناس فيشمتون بالصريع ويترحمون علي يعقوب ثم يصيحون دهشين:
ما أعجل الثأر.. لقد انتصفت السماء.
عجيبة تلك الأقدار
.. ما أكثر عجائب التاريخ.. إنها قصص درامية تلك التي شهدتها دنيا الناس، تجعل المتأمل لها ترتسم في ذهنه عشرات من علامات الاستفهام الحائرة والمحيرة التي تبحث عن إجابات واضحة المعالم والقسمات، ولكن في كثير من الأحيان لا نجد الإجابات ولكن نجد أن علامات الاستفهام في حاجة إلي علامات استفهام جديدة!! ولا أحد يستفيد من حكمة التاريخ، لأن الأحداث كثيرا ما تكرر نفسها!!
لقد وقفت كثيرا أمام قصة واقعية من قصص التاريخ بطلها أحد الأدباء المرموقين، واللغويين الذين تحدثت عنهم المعاجم الأدبية، وهو يعقوب بن السكيت، وقالت عنه أنه من الأدباء المرموقين، واللغويين الذين كان لهم شأ عظيم في الحياة الأدبية العربية في العصر العباسي.
وما يعنينا هنا ليس الوقوف عنده كأديب ولغوي لأن الحديث عنه من هذه الزاوية في حاجة إلي متخصصين في اللغة ونحوها وصرفها، ولكن الذي يعنينا هو موقفه كمثقف أمام ما كان يجري في عصره من اعتداء علي الحق، والجنوح إلي النفاق رغبة في إرضاء الخلفاء والحكام ولو كان ذلك علي حساب الحقيقة.
فالناس في كل عصر.. وفي كل الأجيال.. نري بعضهم ينحاز إلي الحق حتي لو فقد في سبيل قوله الحق حياته نفسها.
كما نري أيضا من يداهن وينافق السلطة أو من في يده السلطة علي حساب القيم حتي يصل إلي ما يريد الوصول إليه من مكانة مخالفا بذلك ضميره ودينه، لأن مصلحته فوق أي اعتبار. هذان النموذجان من البشر نراهما في كل العصور!
ومن يقرأ التاريخ.. تاريخ الشعوب والحكام في مختلف الدول يري هذين النموذجين، بلا تغيير في الشكل ولا في المضمون.
* * *
وبطل قصتنا هذا قضي نحبه في عصر الخليفة العباسي المتوكل علي الله.
والمتوكل علي الله نري بعض المؤرخين يرفعونه إلي مكانة رفيعة، لأنه قضي علي الفتنة التي حدثت في عهد الخليفة العباسي المأمون، الذي كان مولعا بالجدل والفلسفة، وظهرت في عهده بدعة هل القرآن مخلوق أم كلام الله، وكان هذا الخليفة يري أن القرآن مخلوق، وكان يعذب كل من يقول بغير هذا الاعتقاد، وكان ممن عجذبوا بسبب هذه البدعة الإمام أحمد بن حنبل نفسه، والذي كان يقول بأن القرآن كلام الله.
ولكن المتوكل بالله عندما جاء إلي الحكم أبطل هذه البدعة، والحديث فيها وهذا مما يحسب له، ويقول الرواة أن ابن دؤاد صاحب هذه البدعة قد أصيب بالفالج الذي أعجزه عن الحركة.
وهناك من المؤرخين من عاب عليه أنه كان مسرفا في بناء القصور لنفسه، وأنه أرسل من هدم قبر الإمام الحسين والاستهزاء بالإمام علي وزوجته فاطمة الزهراء.
* * *
ولم يعجب أديبنا اللغوي ما يفعله هذا الخليفة من ازدراء للإمام علي وفاطمة الزهراء وهي من هي.. فهي بنت أعظم رسل السماء، وهي التي كانت قريبة من قلب والدها العظيم، وزوجها من هو في مواقفه أيام الرسول وجهاده العظيم وعلمه وتقواه، كما أن الحسين له في القلوب كل التقدير والحب لاستشهاده مظلوما علي يد بني أمية.
لذا استشاط يعقوب غضبا لمشاهدته رياء الناس الذين يضحكون عندما يسمعون هذا الخليفة يلوك بلسانه الإمام كرٌم الله وجهه وزوجته وولده الحسين، استنكر ذلك أمام الناس، وكان من الطبيعي أن يصل رأيه هذا إلي الخليفة، فما أكثر المنافقين الذين يريدون الوصول حتي عن طريق هذه الأساليب الدنيئة.
* * *
ان الخليفة يعتقد أنه بمجرد أن يرسل إلي هذا الأديب العالم إلي مجلسه، ويطلب منه الحديث عن الحسن والحسين، أنه سوف ينهار أمام مجلس الخليفة، وأنه سوف ينكر التهمة التي توجه إليه من أنه يرفض أن يجسب آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه يبدو جبانا أمام مجلس الخليفة!
ودخل الرجل إلي مجلس الخليفة في وقار العلماء، وكان الخليفة يجلس مع ولديه وبعض المقربين إليه.
لقد نظر الخليفة إليه بازدراء وسأله بازدراء:
(*****) يا يعقوب أتري الأميرين هذين؟
قال الرجل:
(*****) أراهما
قال له الخليفة مستهترا وشامتا
(*****) أيهما أحسن؟ ولداي هذان أم الحسين والحسين أيها الشيخ المجنون!!؟
قال الرجل الشيخ بكل الثقة:
(*****) إن قنبرا خادم الحسن والحسين أحسن منهما ومنك يا أمير المؤمنين.
لم يكن الخليفة وهو في أبهة الملك وعظمة السلطة يتوقع أن يكون جواب الشيخ الأديب بهذه القوة وبتلك الصراحة.. كان يتوقع منه أن ينفي أنه قال ما قال عن سبطي رسول الله، وأمهما الطاهرة، ولكنه فوجئ بهذا القول الجرئ، فما كان منه أن اشتاط غيظا وأمر غلمانه وخدمه أن يطرحوه أرضا ويدوسوه بالنعال!
وقام الخدم والغلمان بتنفيذ الأمر، ولم يتركوا الرجل إلا وهو علي شفا الموت، وخرج من حضرة الخليفة متوجها إلي منزله، ولم يلبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة.
* * *
وتمضي الأيام وتسرع خطاها في فلك الزمان.. وإذا بالخليفة يحاول أن يغير خلافة العهد للمعتز، بدلا من المنتصر، مما جعل الأخير يحنق علي والده، ويدبر مكيدة لقتله حتي لا يفسح الطريق للخلافة لأخيه بدلا منه، فاتفق مع الجنود الأتراك علي قتل أبيه، فدخل خمسة منهم عندما ساد الظلام الليل، وكان مع وزيره الفتح بن خاقان، فقتلوهما معا وكان ذلك في الخامس من شوال سنة 247ه.
* * *
وقد حدٌث الشاعر البحتري عن هذه الحادثة فقال:
اجتمعنا ذات يوم في مجلس المتوكل فتذاكرنا السيوف.
فقال بعض من حضر:
دفع لرجل من أهل البصرة سيف من الهند ليس له نظير، فأمر المتوكل بكتابة كتاب إلي عامل البصرة بشرائه مهما بلغ.. فنفد الكتاب.
قال البحتري:
وبينما نحن عند المتوكل في ليلة أخري إذ دخل عليه عامله عبيدالله، والسيف معه، فسرٌ المتوكل به وانتضاه واستحسنه وجعله تحت ثني فراشه، فلما كانت الفداة طلب من الفتح بن خاقان علاما يثق بنجدته وشجاعته، فجاءه (بباغر) التركي، فدفع إليه السبف وزار له الرزق، ولم تمض الأيام حتي قتل المتوكل بذلك السيف من يد (باغر) المذكور قياما بغرض المنتصر!
* * *
ويقول الدكتور محمد رجب البيومي، في دراسته عن 'يعقوب بن السكيت يستشهد' في نهاية هذه الدراسة:
'صد م المتوكل بما لميكن يتوقع، وكسا الخزي الأحمر وجوه جلسائه، فقام كالثور الهائج يرغي ويزيد، ثم أمر غلمانه الأتراك فطرحوا الشيخ أرضا ليدوسون بالنعال، ثم ليتركوه في سكرات النزع، فيحمل إلي داره فاقد الإدراك، ويقلب المحتضر الشهيد عينيه في أهليه مودعا حتي إذا قضي وطرا مما يريد، جاء اليقين قلت رضوان الله.
ويشار القدر الساخر أن يري المتوكل إجابة صريحة دون كتمان حين يتآمر أحد هذين الأميرين المفضلين علي حياته.. فيلقي مصرعه ذليلا ضارعا بتدبير ولده تحت سوف الخدم من الأتراك.. هؤلاء الذين فزعوا من إعدام ابن السكيت، ليتهيئوا بعد قليل لسحق الطاغية العنيد.. فتأكله سيوف الأوشاب في ليلة رهيبة دامية وتقذف جثته في العراء.
ويراها الناس فيشمتون بالصريع ويترحمون علي يعقوب ثم يصيحون دهشين:
ما أعجل الثأر.. لقد انتصفت السماء.