الكاتب: أ.د/ بوعلام جوهري
تمهيـــــــد
قد تعني القومية من لفظها، الإحساس والتّعبير عن هذا الإحساس بالانتساب إلى قوم من الأقوام دون آخرين. وقد يُعبّر البعضُ عن القومية بالوطنية، ويعبر عنها البعضُ الآخر بالعصبية. وإذا ما أخذنا هذا المفهوم العام والشّائع للقومية فإنّنا نجد أنّ مولود قاسم نايت بلقاسم – رحمه اللّه – وظّف هذه الصِّيغة للتّعبير عن التّمسّك بالوطن والأرض والتّاريخ واللـّغة والقوم، وجعلها ترجمةً فعليَّة للإنّيّة والأصاليّة في أعلى صورها وتجسيداتها.
ولكنّ توظيفنا لكلمة القومية هنا يختلف تمامًا عن المعنى السّائد لهذه الكلمة الّذي أسلفنا ذكره، بل نعني به مباشرةً مسألة اللّغة، ولكن بطرحٍ غير طرح المبحث الّذي سبق فيه توظيف مولود قاسم لقالب اللّغة العربية الفصحى في مسألة الإنّيّة وفي موضوع البناء الحضاري الأصالي.
إِنَّ تطرّق مولود قاسم لمسألة اللّغة ليس هو بعينه تطرّقه للقومية وكلامه عنها. فإذا ما تكلّم عن اللّغة خصوصًّا فَهْمِناَ من ذلك أنّه يقصد اللّغة العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم، ولغة الخطاب العلمي والحضاري مع باقي الأمم الإسلامية. أمّا إذا تطرّق إلى موضوع اللّغة عمومًا فإنّه تختلف مقاصده من وراء ذلك، فقد يقصد اللّغة العربية، وقد يقصد غيرها. وإذا مَا قُلْنا غَيْرَهَا فلا يخرج الأمرُ على أن تكون هي اللّغة الأمازيغية بمختلف لهجاتها واستعمالاتها الإقليمية. وهذا ما يفهم من سياق كلامه الّذي سنسرده، ولا يُفْهم منه غيرُهُ، إذ يقول:{ إنِّي بلغتي التي كانت تناغيني بها أمي، وتقصّ لي بها القصص جدّتي، ويتفاهم بها جميع سكّان قريتي، أوحَييِّ في بلدتي أو مدينتي، وأتناغم بها مع أبناء وطني، وأتناجى بها مع آبائي وأسلافي، وأقرأ بها تاريخ وأمجاد أمتي، ومنقوشةٌ بها جدران وصخور بلادي، ألقِّنها أولاد أولادي، وأبلّغ بها رسالتي إلى أندادي، وأفاخِر بها أضدادي}(1).
وسنتناول هذا الموضوع المتعلّق بتطرّق مولود قاسم لمسألة اللّغة الأمازيغية، ولو عرضًا وضمنًا، وقولبتها ضمن إطار الإنّيّة، وإعطائها مكانَها في البناء الحضاري الأصالي داخل المجتمع الجزائري ولو على مستوى التّنظير دون مستوى التّجسيد، من خلال المطالب التالية:
المطلب 1 : الانتساب القومي تاريخيًّا.
المطلب 2 : نبذ الانتماء العُرُوبي المقصِي لِغَيْرِهِ.
المطلب 3 : التَّوَسُّطُ والاعتدال في الانتماء القومي.
المطلب الأوّل
ِ إنَّ إحساس مولود قاسم نايت بلقاسم بالعزّة والكرامة لا ينفصل تمامًا عن إحساسِهِ بالانتماء لِمَا يسمّيه – وهو في ذلك محقٌّ – بالأمّة الجزائرية. وذلك كُلَّما كثُر اللَّغَطُ في الكلام عن باقي الشّعوب المسلمة الّتي تدّعي على نفسها أنّها أمم، فهو، ومدعاةً للتمّيز عن هؤلاء، يتكلّم عن أممية الشخصية الجزائرية والشّعب الّذي يحملها. ولاشيء يميّز الجزائر كشعبٍ عن بعض الشّعوب الإسلامية، وخاصَّةً منها تلك الّتي تدّعي العروبة أصلاً أو تأصُّلاً وتنصُّلاً من بعض الانتماءات القومية الأخرى، لاشيء يميّزها عنها سوى أمرٍ واحدٍ هو التّاريخ.
ثمَّ إِنَّ هذا التّاريخ لا معنى لَهُ إذا لم ينظر فيه إلى محتواه، والتّاريخ هُوِيَّةٌ وأحداث، سواءً كانت الأحداثُ مجيدة أو كانت مُخْزِية، ولكنّها دائمًا وأبدًا تنصبُّ في نطاق حركة الهُوِيّة الّتي تُسمّى بالحركة التّاريخية.
إِنّ التّاريخ الّذي نحن بصدد الكلام عنه هو تاريخ السّكّان الأوّلين الأصليّين لهاته الأرض، حاملي اللّسان والعرق الأمازيغي، التّميُّز القومي والتّاريخي عن باقي شعوب العالم. ولذلك اهتّم مولود قاسم – بحكم عرقه وبحكم جزأريته قبل ذلك – بهذا البُعد الهامّ من أبعاد الشّخصية الجزائرية، ألاَ وهو البُعد الأمازيغي تاريخًا ولغةً وقوميَّةً وعِرقيّةً، الضّامن الأكبر لاستقلالية وأممية الشّخصية الجزائرية وشعبها، وخاصَّةً إذا ما تعلق الأمر بالتميز عن باقي الشّعوب العربية والشّعوب الإسلامية. ويقول مولود قاسم – رحمه اللّه – في هذا الشّأن مبّينًا نظرته وفلسفَتَه: {فما دامت البلدان الشّقيقة الأخرى تكتب عن نفسها وتقول أنّها أمّة، أمّة مصرية، أمّة تونسية، أمّة مغربية، والسّيّد السَّفير هنا يستطيع أن يؤكد لكم هذا بالنّسبة لمن لم يشاهد: ففي مصر مثلاً، وفي عهد جمال عبد النّاصر، في زيارة الرّئيس الراحل هواري بومدين(رحمهما اللّه) سنة 1965، حضرنا في مجلس الأمّة، ليس مجلس الأمّة العربية الإسلامية، بل مجلس الأمة المصرية، مجلس الأمّة التونسية، والملك الحسن الثّاني يقول: الأمّة المغربية، وفي السّودان – حزب الأمّة إلى آخره – أقول: فما دامت هناك كلّ هذه الأميمات العديدة وغيرها موجودة، فنحن أميمة من بين الأميمات، ريثما نعود أمّة وَاحدة ذات يومٍ، إنّ شاء اللّه، كما كُناّ، أو لا نعود...}(2).
فهو يثبت وجود هذه القومية والأممية، وخاصَّةً إذا تباهى وتفاخر النّاس بأصولهم وعرقياتهم ولغاتهم مقابِل أَنْ تُزْدَرى الشّخصية الجزائرية الّتي سجّل لها التّاريخ أمجادًا سواءً في قديمه أو حديثه.
كان مولود قاسم يرى أنَّ عدم الاعتراف بِمضمون التّاريخ القديم للجزائر بكلّ ما فيه مِنْ أحداث ثمّ من لغةٍ عَبَرت العصور والأزمنة ولازالت تعيش، أَنَّهُ نَمطٌ من أنماط المر كوبية كما سبق وأنْ أشرنا إليه في معرض تناول هذه الفكرة أو هذا السّلوك بالأحرى. فمجّرد الإنكار إمضاءٌ وتوقيعٌ تِلقائي لأكاذيب ومخطّطات المنافسين بل المعادين لنا حضاريًّا، وهو اعترافٌ باللُّقطية الّتي لا يرضاها الشّريف لنفسه.
ويذكر مولود قاسم هذه المخطّطات بأكاذيِبَ تحت غطاء العلمية والموضوعية، لينبِّهَ إليها الغافلين أو المغفّلين عن شرف الأمّة الجزائرية، فيقول: {يقول جوليان، – الذّي يعتبر عند بعضنا " نبيّ التّاريخ "، هيرودوت وابن خلدون مجتمعين في شخصٍ واحد – في الفقرة الأولى، من الصّفحة الأولى، من كتابه " تّاريخ شمال إفريقيا ":
« l’Afrique française du nord, qui comprend le Maroc, L’Algérie et la Tunisie, ne possède pas d’état civil précis ».
"إِنَّ إفريقيا الشّمالية الفرنسية – المغرب، الجزائر، وتونس – ليست لها حالة مدنية مضبوطة"، أي لا تاريخ لها، ولا يقصد هنا بالحالة المدنية الولادات والوفيات، طبعًا! تستطيعون التّأكد من هذا وبسهولة، ولا أدّعي عليهم، ولا أنسب إليهم مالم يقولوه، ولا أقوّلهم أشياء...وإنّما أؤكّد بالنّسبة إلى جوليان: الطبعة الأولى، مع العلم أنَّ الطّبعة الثّانية أسوأ!، "ليست لها حالة مدنية معروفة، دقيقة، مضبوطة"، أي أبناء كذا وكذا، أو SNP...في أحسن التّعابير، ولا نقول كلاماً آخر، ومع ذلك يعتبر نبيّ التّاريخ عند البعض...إقرأوا جوليان!}(3).
وقد ضمّن مقدّمة كتابه:"شخصية الجزائر الدّولية وهيبتها العالمية قبل سنة 1830"، فقرةٌ كاملةً عن خطر هذه اللُّقطيّة الّتي أصبحت تُلفَّق بالأمّة الجزائرية ثمّ المغاربية على العموم، وكأنّها ما أخذتْ شخصيتها وما اكتسبت شرعيتها إلاَّ منذ خمسة عشر قرنًا فقط، بالرّغْمِ مِنْ قِدَمِ تاريخها على كثيرٍ من أمم الأرض الّتي تَدَّعي الآن العراقة والرّسوخ في أغوار الزّمن القديم، فيقول:{بل وأكثر من هذا وأفضع: فنجد العمّ جوليان...نبيّ التّاريخ، أو إمام المؤرّخين، في نظر كثيرٍ منَّا في هذا المغرب... يذهب إلى أبعد مِنْ هذا...ويكاد يصف سكّان هذا المغرب بأنهم" لقطاء"، فيقول في الفقرة الأولى، من الصفحة الأولى، من الفصل الأوّل، من"الكتاب" في التّاريخ، في نظر من ذكرنا، تحت عنوان:"الحالة المدنية للبلاد وسكّانها"، عن نشأة بلدان المغرب، ودوله، ومجتمعاته، مايلي:"إِنَّ إفريقيا الشّماليّة الفرنسية، التّي تشمل المغرب، والجزائر، وتونس، ليست لها حالة مدنية دقيقة}(4).
ثمَّ يتألَّمُ مولود قاسم لَمَّا يرى البعض – وربّما يغلب أولئك سوادهم – من المفكّرين والمؤرّخين والإعلاميّين ورجال السّياسة، يتبجّحون بكلّ غباء بمدح تلك النّصوص المخزية والقاذفة في شرف الأمّة الجزائرية، فيقول: {ولكن لِمَ نلوم الغير، ونحن نُنكر أنفسنا من حينٍ إلى آخر، وبَعْضُنا يكرّر ببلادة وماز وحية، ومحكدية ، وبخسية، ومركوبية:"لسنا أمّة"! }(5).
ثُمَّ إِنَّهُ يستفزُّ بقيّة العرض القومي والحضاري في نفوس أولئك، يذكر لهم تصريحًا لعدوّهم الأكبر والمباشر في الثّورة التّحريرية الكُبرى وهو الجنرال دوغول، لعّل ذلك سيجعلهم يستحون في مضيّهم في مركوبيتهم ويرجعون إلى الحقّ الّذي ما بعده إلاَّ الضَّلال، وهو الاعتراف بالقومية الأمازيغية الضّاربة في أعماق التّاريخ والتّي تحفظ للشّعب الجزائري ماء الوجه بين الأمم العريقة تاريخياًّ، وذلك بالرّغم مِنْ أَنَّ أصل البشر واحدٌ، إلى آدم أب البشريّة جمعاء وأَنَّ هذا الانتساب الأممي والتاريخي والعرقيْ والقومي، ما هو إِلاَّ شيءٌ نِسْبِي في كافّة أمم الأرض، لكن لابُدَّ منه مادام الآخرون يضربون في شخصيّتنا ويرموننا باللّقطية وانعدام الأصالة، فيقول:{ يبقى أنّ الفرنسيس استعملوا مدّة طويلة التّمييز العرقي للتّفريق، وقال دوغول وغيره" إنَّ شعب الجزائر فسيفساء مِنْ أجناس، لا يكوّنون أمّة واحدة "، فذلك من سياستهم. أنا لا أدري إن كان أصلي من هذه البلاد منذ الأوّل، منذ فجر الإنسانية، مثلا ًمنذ آدم بالنّسبة للجميع طبعاً، فأقول المسألة كلّها نسبيّة }(6).
بل إنّ مولود قاسم يذهب إلى أبعد الحدود حينما يرى أنَّ الازدراء والإسفاف في مسألة الشخصية الجزائرية آتٍ من قِبَلِ الأصدقاء والإخوة حضاريًّا، إِذْ أَنَّهُمْ يُبيحون لأنفسهم أمرًا يحرّمونه علينا نحن، وهو الاعتزاز والافتخار بالتّاريخ القديم ومحتواه، من عرقية ولغة وقومية، فيستعمل نفس الخطاب الّذي يخاطبون به، هُمْ، شخصية الشّعب الجزائري وحامِلَها، فيصل إلى عدم الاعتراف بتاريخهم ولا بقوميتهم، ويصرّح لهم بأنّه لا يجمع بين شعبه وشعوبهم سوى أمرٍ واحدٍ هو الدّين الإسلامي ولاشيء غيره، وفي ذلك يقول:{ وهنا عندما نستعمل كلمة أمّة فليفهم إخواننا من البلدان الشّقيقة كلمة أمّة عن الجزائر. تقول عمومًا"الأمّة العربية"، ولكنّي شخصيًّا أؤمن بالأمّة الإسلامية، لا أؤمن بأمّة عربية، وإنّما بأمّة إسلامية، لقد أصبح التّركيز منذ لورانس على بعض الشّعارات – أمّة عربية – وعرب وعروبة، بمناسبة وبدون مناسبة، شنشنة نسمعها اليوم، وموجّهة}(7).
وفي موضِعٍ آخر، وعن نفس الموضوع ومؤاخذة الجزائريّين على اعترافهم وتقدريهم لتاريخهم، يقول:{ العرب كانُوا مستعْمَرين في الشّرق، فالمناذرة والغساسنة، بعضهم كان تابعًا للفرس، والآخرللرّوم، كانوا مستعمرين، هذا هو الواقع، والبربر أيضًا، أو الأمازيغ، كما هو الإسم الصّحيح، كانوا أيضًا مستعمرين، مع الفارق: أنَّ الكفاح هنا أطول، بل لم يكن يوجد هناك إطلاقًا!. وما كنتُ أتَوقَّعُ أَنْ تستفزّوني بهذه الطّريقة، لكنّي مضطرّ أن أقول الحقائق هنا للتاريخ!، عندما نشرنا العدد الأوّل من الأصالة، ونشرنا فيه صورة يوغُورطا، قال بعض المساكين، الّذي يُرثى لحالهم، "هذا رجوعٌ إلى الكفر، رجوعٌ إلى الإلحاد!". وهذا من بعض الإِخوان المشارقة أيضًا، الّذين يحرّمون على الغير ما يحلّونه لأنفسهم!. فعندما تبحث بغداد وتوجّه نداء إلى هيئة الأمم والمنظّمات الدّولّية لتشارك في إحياء بابل، فلا تتّهم بغداد بالجاهلية، والعنصرية، وبابل كانت قبل الإسلام!. وعندما يسمّي الرّئيس عبد النّاصر أوّل سيارة أنتجتها المصانع الحديثة في مصر، الّتي نعتزّ بها جميعًا، رمسيس، لم يقل أحدٌ شيئًا!. ولكن عندما نذكر نحن يوغورطا نرى جهلةً حمقى تغمز، وتهمز، وتلمز!. و إذا كان لابُدَّ من الرّجوع إلى الجاهلية الأولى، وأنتم البادئون فهل قاوم أسلافكم أكثر من أسلافنا؟ لا وربّكم، لا والتاريخ! }(.
ثمّ يعود مولود قاسم إلى القول الفصل في هذا الموضوع، وهو أَنَّه لابُدَّ من الاعتراف بالتّاريخ القديم بكلّ ما يحويه من لغة وقومية وعرقية كبطاقة تعريفٍ للشّخصية الجزائرية، وأنَّ عدم الاهتمام به فكرًا وتجسيدًا، هو إنكارٌ للذّات ومركوبية ومسخ. وأنّه إذا كُنَّا نحن مسالمين للأمم الأخرى ونعترف لها بقوميتها وتاريخِها وشَخْصيّتِها عبر كلّ حقب العصور، فإنَّهُ أَوْلَى لنا أن نعترف بأنفسنا أوّلاً وبتاريخنا وشخصيتِنا وقوميتنا، حتّى نكسب احترام الغير وتقديرَهُ بل وتَبجيله لنا، فيجب الاعتناء بهذا الجزء الهامّ من التّاريخ، طبعًا بإحياء أهمّ رموزه في ذلك الوقت، وَالَّتِي لا تزال بيننا، وهي اللّغة والعرقيّة والقوميّة، فيقول:
{ولكنَّ هذا الجزء من تاريخنا – وأيّ جزءٍ من تاريخ أيّة أمّة – لاَ يُنْسَى أَبَدًا، وكما ندرس تاريخ الشِّعر الجاهلي، وندرس حضارة حمير وسدّ مأرب...نفتخر بهذا الجزء أيضًا كذلك وبالذّات، تماماً كما يفعل إخواننا في مصر، كما يفعل إخواننا في سوريا، والعراق، وكما يفعل إخواننا في اليمن، وفي جنوب اليمن بالذّات!} (9).
إنّ القومية واللّغة الأمازيغيتين هما - عند مولود قاسم - الضامنتان لتميّز الشعب الجزائري في إنّيّته عن باقي شعوب العالم شرقيِّها وغربيِّها.
المطلب الثّاني:
ظلَّ مولود قاسم نايت بلقاسم لوقتٍ طويل مكافحاً من أجل تجسيد البعد القوي الأمازيغي للشخصية الجزائرية، ولو حتّى تحت أنظمة حكم وحقبات زمنية لا تشجّع هذا المسعى والكفاح النّبيل، بل وتراه مِنْ قَبِيل الكفر والمعاداة للُّغة العربية والعرق العربي، أنظمة تحارب البعد الأمازيغي نظريًّا وواقعيًّا وترصد الفنّانين والمفكّرين والكتّاب والإعلاميّين لأجل ذلك.
وفي خضمّ هذا الجو المكهرب والمشحون والخطير، كانت لمولود قاسم بالرّغم من كلّ شيءٍ، بعض الصّرخات في هذا الموضوع، وبالرّغم من التّوجّه القومي العُرُوبي للدّولة الجزائرية في السّتّينات والسّبعينات والثّمانينات من هذا القرن، هذا التّوجّه المُقْصِيي لغيره والمزدري له، والمتصدِّي بيدٍ من حديد لكّل الأفكار التي كانت تدعو إلى الاعتراف بالبعد الأمازيغي للشّخصيّة الجزائرية. فبالرّغم من كلّ ذلك، وجد مولود قاسم بعض الفرص السّانحة لطرح القضيّة ولو بالتّعريض والتّلميح إليها فقط دون التّصريح. وكان البُعدُ الدّيني أهمّ وسائل الحقّ التّي كان يستعملها مولود قاسم في كفاحه الفكري والإنوي هذا، فكان يحتمي – دون نفاق – بالحضارة الإسلامية وبالدّين الّذي يجمع أكثر من نصف شعوب العالم تحت رايةٍ واحدة، فيمجّد هذا الدّين لِيَعْلُوَ فوق أيّة دعوةٍ قوميّة قويّة الأنصار كالقومية العربية، حتّى وصل إلى أَنْ صرّح في هذا المجال بالحرف الواحد قائلاً:
{إذا كان يفتخر إخواننا في مصر بالفراعنة، فأنا لا أَلُومُهُم على هذا، عندما يَبْقى في حدوده، كجزءٍ من تاريخهم القديم، والعربُ كا نُوا يَفْتخِرون بالجاهلية، ونحن ندرس امرؤ القيس، وفلاناً، وعلاّنَا، لماذا ندرسهم؟ لماذا أعتزّ بحضارة حمير؟ فإذا كان الإسلام هو الفاصل بيننا، فحمير لم تكن مسلمة. فلماذا أعتزُّ بها؟، ليست لي علاقة بها أبدًا}(10).
وكان مولود قاسم – رحمه اللّه – كثير التّركيز على هذا الموضوع، في وقتٍ كان فيه مجرّد النّطق بكلمة " الأمازيغ " نوعًا من الخروج السيّاسي، بل نوعًا من الخروج الحضاري في نظر بعض المفكّرين والكّتَاب والسّاسة، وصاحبه يُغْتَالُ أو على الأقلّ إذا لم يُسّجَنْ فإنّه يُنْفَى من أرض الوطن.
وبالرّغم من ذلك فقد كانت لمولود قاسم بعض فلتات اللّسان المقصودة كمثل ما سنسرده، إذ يقول:{ هذا هو إسلام، كردي، وأمازيغي، وتركي، وعربي، خير الدّين التّركي، "اليوناني الأصل"، ومحمد بن عثمان الكُردي، ويوسف بن تاشفين، أو عبد المومن، وطارق، الأمازيغي، ومحمود الغزناوي الأفغاني، وموسى بن نصير وعقبة بن نافع العربيان. هذا هو الإسلام، هذا هو ثراء الإسلام، هذا هو غنى الإسلام، هذه هي ميزة الإسلام}(11).
وكأنّ مولود قاسم من خلال هذا الكلام يضمّن دعوةً لإطلاق الحُرِّيّات القوميّة الأخرى غير العربية والمقهورة من طرف القومية العربية المستحوذة على موروث الحضارة الإسلامية الّذي ساهمت فيه كلّ الشعوب الإسلامية بمختلف عرقياتها ولغاتها. وليس لهذا الكلام معنّى إذا لم يكن دعوةً من طرف مولود قاسم لنبذ الإنتماء العروبي والتّعصّب القومي له على حساب هذه اللّغات والعرقيات التّي ذكرها. وكان كلّ مرّةٍ في ذلك يحتكم إلى الإسلام الجامع لكلّ الشّتات النّاطق بالشّهادتين، والأعلى قَدْرًا، والأقدر على التّوحيد والتّلحيم. ولذلك كتب في كتابه"إنّيّة وأصالة" كلاماً كان مِن إحدى تعقيباته في أعقاب الملتقى السّادس من ملتقيات الفكر الإسلامي ردًّا على أحد الأساتذة الّذي لَمْ يُدْعَ إلى الملتقى فغاظه الأمر وكتب على الملتقى باسمٍ مستعارٍ في إحدى الجرائد، وتصدّى له مولود قاسم بالرّدّ، فكان ممّا كتبه ردًّا عليه الكلام التّالي:
{ تكلّمتَ عن هؤلاء المفكّرين الّذين توافَدُوا من شتّى بقاع الأرض الإسلامية، "عربية وأعجمية"، وأظنّ أَنَّ كلمتي "عربية وأعجمية"زائدتان ومن قاموس مختلف ألوان الاستعماريّين وأعوانهم من عديد الفئات، خاصَّةً في الظّروف الأخيرة، وكان في إمكانكَ أَنْ تقف عند "الإسلامية"، فالإسلام يشمل كلَّ شيءٍ وهو الجامع المانع، خاصَّةً وأنت تكتب عن ملتقى إسلامي وفي جريدة تقول أنّها إسلامية، وتعلم أنَّ كُلَّ عنصريّةٍ في هذا السّياق عبثٌ وليس بعثًا، ومشرقنا العزيز بذلك أدرى!}(12).
بَلْ إنَّ مولود قاسم – رحمه اللّه – يؤكد أيّما تأكيدٍ أنْ لاشيء يجمعه بالدّول العربية الأخرى من قومية، بل ما يجمعه وشعبه ودولته بها هو الدّين والانتماء الحضاري. لذلك عَقَّبَ في أحد ملتقيات الفكر الإسلامي ردًا على بعض المتشدّقين والمفتخرين بالعروبة بقوله:{ نرجُو منكم ألاَّ نعود إلى هذه الشّعوبية، والعنصرية والجاهلية... فبالنّسبة لنا العروبة تنحصر في اللّغة العربية، في إطار هذا الملتقى. وإذا كانت هناك شؤون أخرى عربية فتُدرس في إطار الجامعة العربية، وتُدرس بالنّسبة لكلّ بلدٍ في إطار بلاده، لكن عندما نجتمع في إطار الملتقى الإسلامي نتكلّم عن الإسلام، والحضارة الإسلامية، والفكر الإسلامي، واللّغة العربية لنا هي لغة القرآن الّتي نعتزّ بها، بالإسلام، ولغة الثّقافة المشتركة}(13).
لقد خاض مولود قاسم في هذا المجال كفَاحًا مريرًا محفوفًا بالأشواك والمخاطر، وقد نبذته كُلُّ الأطراف المتشدّدة والمتطرّفة في أفكارها وأطروحاتها القوميّة، فمرّةً ينحاز إلى هذا، ومرّةً ينحاز إلى ذاك، ذلك لكونه يحمل ثقافةً جامعةً لأمَّةً غير مُقْصيةٍ لبُعدٍ من أبعاد الشّخصية الجزائرية. وكان دومًا يستنجد بالانتماء الحضاري الواسع والجامع، عَلَّهُ يجذب إليه كُلَّ الأطراف برغم تقاصيها فيما بينها واختلافها في الرُّؤى القوميّة الّذي يَصِلُ إلى حدِّ اللآّتعايش، طمعًا في أنَّ الإسلام – كما سبق وأَنْ فعل في التّاريخ – سوف يفعل فعله التَّلحيمي لأطراف وأجزاء الأمة المسلمة المتعادية، هذه العداوة التّي كان أساسها وسببها الأول البعث القومي العروبي، ثمَّ جاءت الإنبعاثات الأخرى دفاعًا عن شرفها وقيمتها وكرامة دمها أمام الهجمة القومية العروبية، فكتب يقول:{ إِنَّ علينا التّمسُّك بالإسلام الّذي يجمعنا، وإِنَّ العُرُوبَةَّ شيءٌ جزئي، فضلاً عن أنَّ أغلب علماء العربية والإسلام من العَجَم}(14). وكان يدعو المتشدّقين بالعروبة إلى الالتفاف إلى باقي المسلمين الّذين يختلفون عنهم عرقيًّا ولغويًّا، ويشكلّون السّواد الأعظم لحاملي عنوان الحضارة الإسلامية، ولذلك تبنّى كلام الأستاذ صالح جودت الموجود في مقالٍ نشره في المصوّر، إذ يقول :{ بعد رجوعه من ملتقى تيزي وزو، الّذي أدرجنا في جدول أعماله الوحدة الإسلامية...ضرورة الوحدة الإسلامية اليوم، كتب مقالاً تحت عنوان:" ألف مليون أحسن من مائة مليون عربي فقط! "– نعم، هذا هو الواقع}(15).
وكانت لمولود قاسم صولات وجولات في هذا الموضوع بالرغم من تعقّد القضيّة، وتعقّد الوضع الثّقافي والسّياسي آنذاك، إذ يحكي عنه الأستاذ محمّد الصّالح الصّديق بعض كفاحه في نبذ الانتماء العروبي العرقي، وكان من بعض ما رواه في ذلك عنه قوله: { في الملتقى السّابع المنعقد بتيزي وزو سنة 1973 لمّح الدّكتور صبحي الصّالح من لبنان إلى أنَّ الإمام موسى الصّدر رئيس المجلس الإسلامي الشّعبي الأعلى بلبنان وإن كان فصيحًا إِلاَّ أَنَّ أصله الأعجمي يجعله لا يدرك بعض أسرار العربية، فعقّب عليه الأخ مولود بكلام عنيف مفحم خلاصته ( إنّ علينا التَّمسُّك بالإسلام الّذي يجمعنا، وأنّ العروبة شيءٌ جزئي، فضلاً عَنْ أَنَّ أغلب كبار علماء العربية والإسلام هم من العجم أمثال الزمخشري والسّكّاكي والقزويني!!}(16).
وكان مولود قاسم دائمًا يذَكِّرُ مستمعيه أثناء ملتقيات الفكر الإسلامي وقُرَّاءَهُ من خلالِ مقالاته وكُتُبِه، بأنَّ الإسلام هو الجامع وهو المعتَمَد في الوحدة الحضارية، وأنّ كُلَّ دعوةٍ قومية عروبية هي من قبـيل التّشتيت والتَّفتـيت لأجزاء الأمّة الإسلامية، وأنّه لكل الشّعوب الإسلامية أن تفتخر بعرقها وتاريخها ولكن بشرط ألاّ تفرضهما على الآخرين لتُقْصِيَ تاريخهم وعرقهم ولغتهم، فكتب عن البعث الحضاري الزائف وعن البعث الحضاري الحقيقي تحت لواء الإسلام دون إفراطٍ ولا تفريطٍ ولاهضمٍ للحقوق، يقول:
{ المهمّ: ماذا يجمع بيننا؟ فإذا كان الفاصل هو الإسلام، لماذا نتكلّم إذن عن العصر الجاهلي؟، إذن نقول للسُّوريّين واللّبنانيّين لماذا تتكلّمون عن فينيقيا والفينيقيين؟، لماذا تتكلّمون يا إخواننا المصرييّن عن الفراعنة؟ ما الدّاعي لهذا؟ لماذا يسمّي الرّئيس عبد النّاصر رمسيس السيارة الأولى الّتي أنتجتها مصر الحديثة؟، ونحن في دولة إسلامية، ورمسيس زعيم الفراعنة! لماذا يسمّيها رمسيس؟، لماذا يدعوا الآن العراق وسوريا للبعث، والبعثية، ويقصدون بالبعث طبعًا ليس بالبعث الإسلامي؟}(17).
وذهب مولود قاسم إلى أبعد من كُلِّ ذلك حين صرّح– وهو وزيرٌ في الدّولة الجزائرية المعترفة بميثاق جامعة الدّول العربية والمنخرطة فيها– بأنّ إطار الوحدة العربية تحت راية جامعة الدّول العربية إطارٌ مؤقَّتٌ لا معنى له، ويجب أن يكون مؤقَّتًا، وذلك أثناء أحد متقيات الفكر الإسلامي، ثمّ ضَمَّنه كتابه"أصالية أم إنفصالية؟"، إذ قال: {وهنا أفتح قوسًا صغيرًا فقط لأقول للأخ الطّالب الّذي بعث إليَ بقصيدة في العروبة والعرب وتمجيد العروبة والعرب، أقول له: رأيي في هذا واضحٌ معروف، أنّه بالنّسبة إليَّ أننا هنا في مؤتمر إسلامي، العروبة والعرب لهم إطار في الجامعة العربية، إطار مضيَّقٌٌ مؤقّتا، المفروض أن يكون مؤقَّتًا، نحن هنا في ملتقى إسلامي}(18).
ويوضّح الدّكتور أبوالقاسم سعد اللّه هذا الإتجاه المقصود من طرف مولود قاسم، فيما كتبه عنه في تأبينيته، ويبرز توجّهه المُمقت والنّابذ للاتجاه العروبي البعثي العرقي القومي على حساب لغة أمّه وأبيه وعرقيتهم، ثمّ يشير إلى تَغَيّرُ هذا التّوجّه تغيُّرًا بحكم الوظيفة، وليس احتكامًا إلى تبدّل الأفكار والاعتقادات والرُّؤى الفلسفية المصيرية في صنع شكل المجتمع الجزائري المرتقب الّتي وضعها مولود قاسم أساسًا لشَخصية البناء الحضاري كما يتمّناه ويرتقبه، إذ يقول الدّكتور عنه في ذلك:{ من يقرأ كتابه (إنّية وأصالة) وغيره يدرك أنَّ سي مولود أثناء المرحلة الأولى الّتي ذكرتها، كان كثير التّعريض بالعرب– بالجِدِّ أحيانًا وبالمزاح أحيانًا أخرى – ولكنّه تغيّر مع الأيام، خصوصًا بعد أن أصبح عضوًا في بعض المجامع العربية، وبعد طغيان موجة الفرنكفونية الّتي صنّفته هو أيضًا من "البعثيين"مادامت ثقافته الأولى عربية إسلامية}(19). بل إنّ الدكتور أبو قاسم سعد اللّه يصرّح بأن مولود قاسم كانت له ميولٌ بربرية – على حدّ تعبيره وأنا أقول تمسّك بالأمازيغية– وهي الّتي جلبت له المشاكل والعوائق والمعضلات، وأنَّه لَمْ يَسْلَمْ من أي فريقٍ من الفريقين المتطرّفين في مسألة تحديد وتوضيح الهوية الجزائرية وأبعادها، دعاة الإقصاء والتّجزيء وعدم الاعتراف بالكلّ ونبذ الالتحام والتجميع بين كلّ مقوّمات الشّخصية الجزائرية، فكتب عنه وعن هذه (الميول البربرية) والموقف الواضح من العروبة، يقول:{كان البعض من هؤلاء يأخذ على سي مولود ميوله البربرية في كتاباته، وغموض مواقفه من العروبة الّتي يُسمّيها شعوبية، ومن الانتماء الحضاري سيما بعد أَنْ أصبح مسؤولاً على المجلس الأعلى لِلُّغة العربية، حتَّى أنَّ بعضهم كان يرى في وجوده على رأس الجهاز الرّسمي نوعًا من الحاجز المقصود ضدّهم} (20)، ولعلّ هؤلاء لم يهضموا نبذ مولود قاسم للعروبية الشّعوبية العرقية القومية والّتي أُرِيدَ أَنْ تُجعل وتُرَسَّى بديلاً عن البعد الأمازيغي – لغةً وقوميةً– للشّخصية الجزائرية، وألاَّ تُعطى اللّغة العربية سوى مكانتها الحضارية من منطلق الانتماء الإسلامي الواحد لتحقيق الثّقافة المشتركة بين شعوب الأمّة الإسلامية، ولازلنا نتخبطّ في نفس المشاكل والأطروحات ولا ندري متَى سننطلق حضاريًّا الانطلاقة الصّحيحة والسَّليمة والوفيّة بإنّيّة الأمّة الجزائرية بكلّ ما تحمله من عناصر وأبعاد.
المَطْلَبُ الثَّالِثُ:
بالرّغم من أنَّ مولود قاسم نايت بلقاسم كان يطرح مسألة الاعتراف بالقومية الأمازيغية بقوّةٍ، ويُشير إليها تصريحًا وتلميحًا في مناسباتٍ عدّة وفي ظروف خانقة لا تشجع مثل طرحه، بل وتقمعه وتعاقب صاحبه، ويربط القومية مباشرةً باللّسان والعِرق الأمازيغيين ويعتزُّ بذلك أيّمَا اعتزاز، إلاَّ أنّه كان شديد الدّقة في طرحه للقضيّة وللمسألة على أن يحرص التّوسّط والاعتدال فيها ويلتزم عدم التّطرّف وعدم التّحيّز إلى جهةٍ دون جهةٍ، وإلى فكرةٍ دون فكرة.
من جانبٍ، كان مولود قاسم يطرح القضيّة بقوّة واعتزاز ليس بعده اعتزاز، ومن الأمثلة على ذلك أنّه كان يذكّر بأمجاد الأمّة الجزائرية من خلال بعض أسلافها وأجدادها، وكان يعتزّ أيّما اعتزاز بأمثال ماسينيسا ويوغورطة وطاكفاريناس ويوبا الثّاني والقديس أوغسطين، وقد تجاوز إعجابه بيوغورطة كُلَّ الحدود إِلى حدِّ أنْ سمّى نجله الوحيد باسمه، ثمَّ سمّى ابنته بعد ذلك– وبربطٍ وثيق ومقصود– باسم "جزائر"، ليربط في عائلته الصَّغيرة بين الإنّيّة والأصالية في أعلى سماتهما، ربطاً بين الواقع والتّاريخ، وبين الهوية والقومية مضمونًا. ثمّ وصل به الأمر إلى حدّ إقحام بعض المعلومات التّاريخية البعيدة والغائرة في الزّمن في خضمّ مناقشات ملتقيات الفكر الإسلامي أمام علماءٍ أجِلاَّء ومفكّرين من مختلف بقاع الأرض وبلاد العالم، ليبيّن اعتزازه بقوميته وتاريخه، فأورد مثلاً كلامًا على يوبا الثّاني أحد ملوك نوميديا إذ قال :{ يوبا الثاني JUBA II، الّذي ألف أوّل دائرة معارف، لأنّ أرسطو إذا كان قد ألّف عدّة كتب في المنطق، والفلسفة، والطبيعة...لم يؤلف دائرة معارف كاملة وشاملة لجميع الفنون والعلوم كما فعل يوبا الثّاني، وإنْ كانت مع الأسف اندثرت. ويوبا الثّاني هو الّذي وضع أوّل خريطة للجزيرة العربية، وكذلك الفنّ القصصي، ويقول كثير من المؤرّخين، ومنهم المؤرّخ التونسي الشهير عثمان الكعاك، أنَّ الطّريقة القَصَصية القديمة على طريقة Les fables لإيزوب Esope، التي قلّدها فيما بعد فيدر phédre، وعبد اللّه بن المفقّع، ثمّ لافونِتينLa fontaine ، أنّهم أخذوها عن الجزائر، مِنْ إِرث يوبا الثّاني، وإنْ ضاع هذا التّراث مع الأسف فيما بعد}(21).
وقد كتب مولود قاسم في أكثر من موضعٍ من كتاباته، للشّهادة التّاريخية وللتّذكير، عن مسألةٍ مهمَّةٍ جِدًّا في نظره يجب أن تستفزّ الشرف الجزائري والأنف القومي، وهي مسألة تسمية الرّئيس الأسبق لفرنسا فاليري جيسكارديستان لِكلبه باسم يوغورطة أحد أعظم رموز الجزائر التاريخية، وفي ذلك يقول مولود قاسم:{ لنذكر، للتّاريخ، أن رئيس الجمهورية الفرنسية العالي، السّيّد فاليري جيسكارديستان، سمّى اخه"يوغورطا"!}(22).
ولعلّه لم يذكر هذا الأمر إلاَّ لمقصدٍ واحدٍ هو حَثِّ واستفزاز بقيّة الشّرف القومي الجزائري عند بعض النّاس إن كانت هناك بقيّةٌ من شرفٍ عندهم، وخاصَّةً أنّه كان يدرك تاريخيًّا ماذا يمثّل يوغورطة بالنّسبة للدّولة الجزائرية والقومية الأمازيغية والهويّة الوطنية وارتباط ذلك بِمقاومة هذا الشّعب للرّومان قبل سقوط زعيم الغوليّين الفرنسيس وأب دولتهم أمام نفس الاستعمار بأكثر من خمسين سنة. لذلك فقد حكى عنه الدّكتور أبو قاسم سعد اللّه هذا الاعتزاز بيوغورطة، وماله من مغزى عنده، وعن الاعتزاز بالقومية الأمازيغية ولغتها ورموزها ككلّ، فقال:{وإنَّ من يقرأ تنويه سي مولود بمفدي زكريا على أنّه"شاعر النّضال السّياسي الثّوري والكفاح التّحريري المسلّح" يعرف أنَّ سي مولود كان يربط بين مفدي الحزبي والجبهوي ويردّ على من كان يقدّم عليه الشّاعر محمّد العيد على أنّه شاعر الجزائر والإصلاح والوطنية والشّمال الإفريقي...ولَعَلَّني كنْتُ من القلائل الّذين كانوا يفهمون غرض سي مولود في هذا المجال، تمامًا كما كنتُ من الّذين قد فهموه عندما وضع على أوّل غلافٍ لمجلّة(الأصالة) رسمًا لـِ (يوغورطة)، أو عندما كان يحدّث جمهوره طويلاً عن دور(اللّغة)عند الأمم ثمّ يطلب منهم الاعتزاز بلغتهم دونَ أن يـحدّدها لهم}(23).
وقد تصدّى مولود قاسم في ملتقّيات الفكر الإسلامي الّتي كان يرعاها، لِكثيرٍ من الأفكار الجارحة في تاريخ الأمّة الجزائرية بصفـةٍ مباشـرة أو غير مباشرة، ومنها الإشَاعة التّاريخية الّتي وصلت إلى حدّ العلميّة عند بعض المؤرّخين والمثقَّفين، في أنَّ الأمازيغ أصلهم من عرب اليمن، إذ يقول على ذلك:{ تبقى كلمة الأمازيغ واليمن: أقول للأخ صفوان قدسي أن ليس فقط فقيدنا الكبير الأستاذ عثمان الكعّاك هو الّذي قال بهذا، بل عبد الرحمن بن خلدون كتب هذا بكلّ وضوحٍ، وقال أنّ الأمازيغ جاؤُوا من جنوب اليمن، من حضرموت وغيرها، من تلك الجهات} (24). ثمّ يذكر الأغاليط في ذلك، والصّحيح أنّ علاقة الشّمال الإفريقي باليمن هي علاقة عكسية يقلب فيها الأمور والموازين، وهو أنّ بعض القبائل الأمازيغية البربرية هي الّتي هاجرت إلى اليمن، وجاء من هذه الهجرة هذا التّشابه الحاصل في لغات بعض مناطق اليمن ولغات الشّمال الإفريقي، فقلبَ مولود قاسم القضيّة وأبطل الإشاعة، ولا أظنّه يذكر ذلك أمام كبكبـةٍ من العلماء والمؤرخين والمحققين دون أن يستند إلى حقائق تاريخية ثابتة وموجودة، ولا إلى أحداث سجّلتها الذّاكرة البشريّة منذ قرون عدّة، ليُقيم فكرته على قواعد وأسس سليمة لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، وفي ذلك وضّح القضيّة والمسألة وقتَل الإشاعة، بل وقَلَبَها رأسًا على عَقِب، فقال:{ ولا تزال إلى الآن أسماء جزائرية، ومغربية، وتونسية، أو كما يقول الدّكتور الحبابي: مغاربية، في القاهرة في مصر، وفي سوريا، أسماء مغاربية محضة لا توجد في بلدان أخرى، غير بلدان المغرب، ومصر، وسوريا...وربّما أضفنا لهما اليمن...، أقول هذا، من باب تبادل المصالح والمنافع، للشّيخ عبد اللّه المجاهد الشماحي، وصل هؤلاء الكتاميون، من الجزائر، إلى اليمن أيضًا، وكانوا هناك مدّة طويلة، وبعضهم انتقلوا، ويوجدون اليوم في الهند، بعد أَنْ عاشُوا قروناً في اليمن}(25).
ثمّ أتى بكلامٍ يتعلّق بِابن خلدون المؤرّخ والعالم الإجتماعي، وماذا تَصّور فيه المؤرّخون والمحقّقون والمفكّرون والمحلّلون، ليبيّن أنّ الأمازيغ واليمن شيئان مختلفان لا علاقة بينهما في الأصل إلاَّ مِن قَبِيل هذه الهجرة لقبيلة كتامة من شمال إفريقيا إلى هناك واستقرارها هناك لمدّة قرون، فعنصر شمال إفريقيا مختلف عن عنصر أرض اليمن، وفي ذلك يقول:{ ويقول ابنُ خلدون عن نفسه:"الحضرمي" اليمني. وقد اتَّهمه البعض بأنّه مجّد من يسمّون بالبربر خطأ، "لأنّه بربري"، والبربر كانُوا يسمّون أنفسهم الأمازيغ. ولكن على كلّ حال ليس هذا موضوع الكلام، مجّدهم في الجزء السّادس أظنّ، فيما أذكر من كتابه، وقال الكثير واتّهمه الكثير بأنّه من أصل أمازيغي، وأنّه كذّابٌ عندما قال أنَّ أصله حضرمي يمني}(26).
هذا من جانب طرح مولود قاسم لقضيّة الهويّة والقوميّة بقوةٍ واعتزاز. ولكن، من جانبٍ آخر، كان مولود قاسم يطرح مسألة القومية بتوسّط واعتدال ويربط بينها وبين باقي أبعاد الشّخصية الجزائرية من لغةٍ عربية ودينٍ إسلامي وتاريخٍ، فلا يطرح القوميّة بشكلٍ إقصائي ومتطرّف، بل يطرحها بشكلٍ تجميعي وتوفيقي لا تطغى فيه بعض الأبعاد على بعضها الآخر داخل تشكيل الشّخصية الجزائرية، فهي كالوادي الّذي يمتدّ من مشارب متعدّدة تصبّ فيه كلّها. وتأكيدًا لهذا الإتجاه يقول مولود قاسم:{ أقول إذن للشّعوبيّين: نحن لا نعود إلى هذه النّعرات، ولا نعود إلى هذه التّسميات، والشّعارات، والصيغ الجاهلية، والشّعوبية. وعلى كُلٍّ، إذا كان لكلّ بلادٍ أن تعتزّ بأصلها القديم، فلا بأس بهذا، مادام لا يمسّ بما أتى بعده، وبما أسمّيه أنا نسخًا لما قبله، وهو الإسلام الّذي أتى بالحضارة الّتي تجمع، الّذي أتى بالدّين، وبالأخلاق، والّذي أتى بالثّقافة الّتي تجمع هذه الأمم كلها، ولكنّ هذا الجزء من تاريخنا– وأيّ جزءٍ من تاريخ أيّة أمّة – لا يُنسَى أبدًا}(27).
وكان مولود قاسم يضع التّشكيلة الجامعة لعناصر الشّخصية الجزائرية متمحورةً حول بُعدٍ أساسي ومهمّ في هذه الشّخصية وهو عنصر الدّين الّذي يشكّل الإسمنت الّذي يمزج ويجمع كلّ الأبعاد الأخرى تحته، وهو العنصر المشترك الّذي يبدأ منه التّوحد والالتحام بين مختلف باقي أبعاد الشّخصية الجزائرية، وفي ذلك يقول الدّكتور أبو القاسم سعد اللّه عن مولود قاسم:{ فرغم أنّه كان عميق التّأثّر بالفكر القومي الألماني القائم على اللّغة في المقام الأوّل، فإنَّ سي مولود كان يربط بين اللّغة والدّين في الجزائر. وكانَ فيما يبدو يرى كلّ متحّمس للُّغة العربية لذاتها– كقاعدة للفكر القومي – على أنّه "بعثي"أو"قومي" – "ناصري" وما إلى ذلك، وبذلك وجد نفسه أحيانًا، ولو دون إرادةٍ منه، في معسكر دعاة البربرية وأيضًا دعاة الفرنكوفونية الذّين لا يمانعون من وجود الإسلام إلى جانب البربرية والفرنسية، كما وجد الإسلام إلى جانب الفارسية والتّركيّة، على حدّ تعبيريهم، وكان تطوّر في موقفه من هذه القضايا، فبينما كان ذلك هو شأنه خلال السّتّينات والسّبعينات، وجدناه قد أصبح من المدافعين عن اللّغة العربية لذاتها بحكم الوظيفة الّتي تولاّها وهي كونُهُ ممثِّلاً لرئيس المجلس الأعلى للّغة العربية، ومن ثمّة دفاعه عن إنشاء مجمع اللّغة العربية الجزائري}(28).
وقد لخّص الأستاذ سعيد أيت مسعودان – الوزير الأسبق – هذا التّوسّط والاعتدال في الانتماء القومي كما كان يراه مولود قاسم – رحمه اللّه – ويرى من خلاله الشّخصية الجزائرية الّتي يجب أن تحكم البناء الحضاري الأصالي للشّعب الجزائري، وهو تلخيصٌ وافٍ لمغزى الموضوع، وشهادةْ في نفس الوقت لمدرسة سيّاسية وثّقافيّة أسَّسها مولود قاسم ولازلت تعيش إلى أيّامنا بالرّغم من أنّها لم تجد التّجسيد بعد، إذ يقول الأستاذ سعيد أيت مسعودان أحد أصدقاء ورفقاء المرحوم:{ فعلى سبيل المثال فيما يخصّ الهويّة الوطنية كان للمرحوم– وكنتُ أشاطره– مفهوم باديسي لهذه الهويّة، وكان بدون عقدَةٍ وفيَّا للأصالة الأمازيغية للشّعب الجزائري بكامله، كما كان وَفِيَّا لكلّ ما يربطنا لغةً ودينًا وانتماءً بالحضارة الإسلامية، ولقد كان رحمه اللّه، يعتزّ – وهو على حقّ – بالدّور العظيم والباع الطويل الّذي أسهم به هذا الشّعب في تشييد تلك الحضارة بأبطاله وعلمائه من أمثال: طارق بن زياد، وعبد المومن بن علي، وأبي معطي الزواوي، وابن باديس، والشيخ أرزقي الشرفاوي...كما كان المرحوم في نفس الوقت يعتزّ بالتّاريخ المجيد لهذا الشّعب مُنْذُ القِدم، ومن الأبطال الذّين كان يفتخر بهم عبر التّاريخ الوطني هم يوغرطة، وطاكفاريناس، والأمير عبد القادر، ولالّة فاطمة نْسُومَرْ...} (29).